الأهميّة التاريخيّة للغة السريانيّة وحالتُها الراهنة - Karyo Hliso
Yusuf Begtas:

الأهميّة التاريخيّة للغة السريانيّة وحالتُها الراهنة

ملفونو يوسف بِكتاش
الأهميّة التاريخيّة للغة السريانيّة وحالتُها الراهنة

اللغة السريانية واحدةٌ من أقدم اللغات في التاريخ. وعلى الرغم من أنّها معروفةٌ كأُخت لكلّ من العبرية والعربية، إلا أنّها أثّرت تأثيرًا عميقًا عليهما. تنتمي اللغة السريانية إلى عائلة اللغات السامية، وهي ٱمتداد متقدّم للّغة الآرامية. في حِقبة ما، كانت لغة شائعة الاستخدام في الحياة اليومية، واللغة العامّة المشتركة (lingua franca)  في العديد منَ الإمبراطوريات. كانت الأبجدية السريانية واحدةً من الأبجديات وأنظمة الكتابة الثمانية عشر ٱلتي استخدمها الأتراك عبر التاريخ.

للغة السريانية مكانة طيّبةُ السُّمعة في العالم المسيحي، لأنّها كانتِ اللغةَ التي تكلّم بها يسوع المسيح. توجد فيها ثلاثة أنظمة طباعية أو خطوط متشابهة وهي: الإسطرنجيلي والسرياني الشرقي والسرياني الغربي. كلّ مَنْ يستطيع قراءةَ أحد هذه الخطوط بإمكانه أن يقرأ الخطّين الآخرين بسهولة. إنّ الاختلافاتِ اللهجيةَ الموجودة في جميع اللغات قائمةٌ في اللغة السريانية أيضًا. هناك لهجتان محكيّتان: الشرقية والغربية. في الكلام العامّي، تُعرف اللهجة أو اللكنة الشرقية باسم "الكلدانية أو الأشورية"، وتُسمّى اللهجة أو اللكنة الغربية باسم "السريانية". وإذا تمّ تجاهلُ اختلاف النطق (لا سيّما مثل النهاية بـ ا/ "a"  و "o") ، عندئذٍ لا يوجد فرق كبير بينهما.

إلى جانب كونها لغةً أدبية، فإنّ للغة السريانيةَ لكنة أو لهجة عامية أيضًا. وعلى الرغم من وجود خصائص إقليمية ومحلية، فإن هذه اللهجة أو اللكنة العامية تنقسم مرة أخرى إلى نُطقين (لفظين) أو لغتين محليتين. اللغة العامية المستخدمة في إيران والعراق وتركيا في منطقة شرناق Şırnak ( الهكاري في الماضي) تُسمّى "أشوري أو سورث" “Ashuri or Suret” ؛ وتُدعى اللغة المحكية في منطقة ماردين بـ "الطورويو أو سوريات" "Turoyo  ،Surayt".

اليوم، تَستخدم الكنيسةُ السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية والكنيسة السريانية المارونية اللهجةَ الغربية للسريانية - إلى جانب اللغة المحلية - في الصلوات والطقوس اليومية. في حين أنّ كنيسةَ الشرق الأشورية والكنيسة الكلدانية تستعملان اللهجة الشرقية للغة السريانية. بعد القرن السابع الميلادي، قطعت كنائسُ الملكيين الأرثوذكس والكاثوليك روابطَها التنظيمية مع اللغة السريانية، وتحوّلت بالكامل إلى استعمال اللغة العربية.

اللغة السريانية هي بمثابة حامل ووريث للثقافة العُضوية التي تطوّرت في بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia).    إنّها لغة قديمةٌ جدًا لعبت دورًا مهمًا في تطوّر الحضارة. وهي منبثقةٌ من قلب الشرق، واحدة من أقدم اللغات في العالم، واللغة التي تحدّث بها يسوع المسيح، كما نوّهنا آنفا. لقد نُسجت مع التاريخ المديد لنهرَي دجلة والفرات، وقد تحسّنت مع ولادة الكنيسة السريانية الأنطاكية. إنّ العُمق الإدراكي للسريانية أدّى إلى انتشار الديانة المسيحية. وعلى الرغم من وجود عواملَ اجتماعية أخرى، فإنّ الكنيسة والطقوسَ في بلاد ما بين النهرين، لم تكن لتتقدّمَ كثيرًا بدون المفاهيم العقائدية والكفاءة الفكرية للسريانية.

من خلال مساهماتها الرئيسية في الفكرين، الشرقي والغربي، لعبت هذه اللغة دورًا رائدًا في انتشار المسيحية، في تطوير الفكر والفلسفة، وفي نقل الحضارة اليونانية إلى العالم ين العربي والأوروبي. كان للسريانية ولشذاها العديد من المساهمات العظيمة في نقل معرفة العصور القديمة إلى العالم الإسلامي. تاريخيًا، إنّ خاصية الطابع الموجّه للمبادرة التي تتّسم بها اللغة السريانية، مكّنتها منَ المساهمة فكريًا في الحياة الاجتماعية والثقافية في المنطقة، وبنحو خاصّ في اللغة العربية والفلسفة الإسلامية.

من الممكن وصفُ اللغة السريانية بأنّها واحدةٌ من اللغات الأساسية للمسيحية وذلك بسبب ما فيها من مفاهيمَ راسخة في اللاهوت المسيحي. إنّ الأعمال الأدبية الرئيسية المكتوبة بهذه اللغة، تتمحْور بشكل رئيسيّ حول كلمة الله والقضايا الأخلاقية. إنّ ادراك الكتّاب والمفكّرين السريان للحقيقة التي مفادها أنّ "الإنسان يُعدّ إنسانًا عندما يتعامل مع الحقيقة بصدق ومع الخليقة بنحو أخلاقي"، وقد خدم ذلك في تنمية الفكر الاجتماعي وترك إرثًا ثريًا في العلوم الوضعية.

إنّ الأمرَ الذي يوفّر وحدة عُضويةً للغة وللثقافة، هو العالَم الدلالي الأخلاقي للكلمات والمفاهيم. سيكون الانقراض أمرًا لا مفرَّ منه، عندما يبدأ التآكل والفقدان الدلالي في معاني الكلمات في هذا العالَم. يُشبه التآكل والفقدان الدلالي المرضَ. إنّهما يُؤدّيان إلى موت الهوية الدلالية لمعاني الكلمات. وهذا سيؤثّر سلبًاعلى العلاقات الاجتماعية.

تؤكِّد الهوية الدلالية لمعاني الكلمات على المضمون، ومن ثَمّ على روح المفاهيم والكلمات. إنّها تفسِّر كلًا من المعنى والقيمة. إنّ للمحتوى والمعنى والقيمة وظائف حيوية تحدّد تصرّفات الناس ودوافعهم. كما تعمل هوية المفاهيم الدلالية على تحسين الأفكار الذهنية وتوسيع الدلالات الموجودة. بل إنّها تُضيف معاني جديدة حتّى. وهذا يؤثّر إيجابيًا على قُدرة التأويل وعلى نظام التقييم لدى الناس. إنّ ضعف القدرة على التأويل لهو أكبرُ كارثة يُمكن أن تحلّ بأيّة لغة وبالتالي للأمّة. هذه الكارثة تؤدّي إلى عُقدة النقص، وتؤدّي إلى الاكتئاب، وتضعها على خلاف على الإطلاق، وتنحدر إلى الفناء. أمّا تطوّر اللغة المفاهيمي فإنّه يعزّز حيوية تلك اللغة وتكوينها الاجتماعي والثقافي، ووجودها السياسي وفهم الأشخاص الذين يتحدّثون بتلك اللغة.

إنّ موتَ لغةٍ ما، يعني ٱنقراضَ الأشخاص الذين يتحدّثون بتلك اللغة واندثار التراث الذي أوجدته تلك اللغة، لأنّ اللغةَ ليست مجرّدَ أداة تواصل بين الناس. إنّ المعرفة الكامنةَ في لغة ماو تُعدّ أداة تعمل على نقل المعرفة والحكمة إلى الأجيال القادمة، وبالتالي تحسين العلاقة بين الماضي والمستقبل.

جميع اللغات والثقافات تتشارك في أسرار الإنسانية. لكن كما يقول المثَل، إنّ أُولئك الذين لا يعودون إلى الكتابة، لا محالة إلى الفناء ذاهبون. فلا يُمكن لأيّ مجتمع أن يعيش طويلاً بعقلية لا تنتمي إلى ذاتهِ وبدون الثقافة المنبثقة منه. هناك معنىً للتكامل الاجتماعي والتنمية الفكرية عندما يكون كلُّ مجتمع قادرًا على تحسين الفكرة المنبثقة من داخل ثقافته، والمرتبطة بأُخرى عالمية أيضا.

على طريقة التفكير هذه أن تتطوّر عن طريق ترسيخ هيمنتها الخاصّة، وطريقة ما للتواصل بحيثُ لا تدمّر الآخرين، ولكنها تخدِم العدالة الاجتماعية، والصدق، والتبادل والوجود. إذ أنّ كلَّ شيء في الكون مفيدٌ طالما أنّه يدعم فهم معنى الحياة وتحسينه.

يرتبط الوضع الحاليُّ للغة السريانية بالوضع الحالي لهيكل تركيبة المتحدّثين بها. إنّ التحولاتِ والمعاملة غير العادلة والتشتّت تؤثر سلبًا على اللغة السريانية وعلى تطورّها الإدراكي للمفهوم. في الواقع، إنّ الظروف الحاليةَ للسريانية هي استمرار للعصور القديمة وللأحداث التاريخية بدرجات مختلفة.

على الرغم من كلّ الأدوار الإيجابية التي لعبتها اللغة السريانية في التاريخ، فإنّها غريبة ٌ اليوم. وعلى الرغم من استمرار وجودها في الكنيسة والأدب، لكن مفاهيمها الاجتماعية والثقافية ذات العمق الروحي قد فَتَرت و تلاشى معناها وقيمتها.

أدّتِ التغييرات في طريقة سفرنا والتواصل في الوقت الراهن، إلى زعزعة اللغة السريانية. لقد ظهرت طُرق جديدةٌ للاجتماعات، للاتّصال، للابتكارات، لمخاطر مختلفة، لآداب وتصورات جديدة. إنّ إحياء المفاهيم العقائدية والفلسفية والسياسية والروحية والثقافية للغة السريانية بطريقة فكرية - من منظور اجتماعي - سيخلق مقاومة ضد الانقراض وكسر القالب. هذا ضروري لتفادي الانقراض والقضاء على روح قديمة العهد. سيكون هذا مجهودًا حيويًا في فترة التداخل بين السعي للتحوّل مع الأزمات.

هنالك في الثقافة السريانية قول مأثور، "الإنسان المنتج يُقارَن بامرأة حامل. إذا عاشت، فستعيش ليس لنفسها فحسب. إذا ماتت، فلن تموت هي فقط." إنّ التكيّف الاجتماعيَّ والسلام يعتمدان على ظهور القُدرات البشرية والفردية وتسخيرها لخدمة الحياة. إنّ كلّ القدرات تأتي من لدن الله. إنّها عهد إلهي مستلم. فإذا لم تعمل بدافع إثراء الحياة، عندئذٍ سيتمّ إلغاء العهد. وستُلقى القدرات بعيدا.

لذلك ، فإنّ اللغة السريانية هي روح قديمة وثقافة قديمة. والمطلوب انتهاج نُهُج مختلفة وجهود مختلفة من أجل الحفاظ على بقاء هذه الروح على قيد الحياة. يجب أن يكون الهدف الرئيسي سقيَ الشجرة الجافّة. والنقطة الأساسية هي أن تبقى هذه الروح وهذه الثقافة القديمتين على قيد الحياة، ووضعها جنبًا إلى جنب مع أُخرى عالمية.

بما أنّ رأس المال الفكري يشبه الكهرباء، فلا يمكن رؤيته لكنّه يُضيء الطريق ويرشدنا إليها. هنالك أبعاد جديدة ٱكتسبتها المعرفة والحكمة، فإنّ التمويل الفكري قد حوَّل العالم إلى سوق بلا حدود ولا حواجز.

إنّ حماية وتحسينَ اللغة السريانية التي كانت حاضرةً في تاريخ ماردين، والتي ساهمت بشكل كبير في الإنسانية والمسيحية، ليست مسؤوليةَ أولئك الذين يُحبّون هذه اللغة ويعرفونها فحسب. إنّها قضيةٌ يجب أن يشعُر بها كلّ من يتحمّل المسؤولية تجاهَ المسيحية والإنسانية والثقافة العالمية.

وعليه فإن محاولةَ الحفاظ على روح قديمة مثل اللغة السريانية، تشجِّع أولئك الذين يبذُلون جهدًا من أجل هذه القضية، وستكون مساهمة مهمّة وذات معنى ومردود لأجيال المستقبل.

"الوعي هو أمّ المعرفة اليتيمة." وتُسمّى المعرفة الموجودة وغير المحسوسة بعد في الأدب بالمعرفة اليتيمة. عندما نُدرك ونبدأ في استخدام أيّة معرفة كانت، تُصبح تلك المعرفة بالنسبة لنا معرفةً يتيمة. لذلك، فإن النقطة الرئيسيةَ ليست المعرفة، ولكن تبيانها. لأنّه إذا لم يكتشفِ الشخصُ ما يعرفه، فلن تكونَ لهذه المعرفة أي استخدام دنيوي.

ملفونو يوسف بِكتاش

الترجمة من اللغة الإنچليزية: د. إشراق نبعة.

تدقيق لغوي: أ. د.حسيب شحادة


 
Please Leave Your Thinking

Leave a Comment

You can also send us an email to karyohliso@gmail.com